معركة حجارة السجيل
بدأ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نوفمبر 2012م، وأطلقت عليه المقاومة الفلسطينة معركة “حجارة السجيل”، وكان لهذا العدوان أهمية كبيرة بالنسبة المقاومة رغم قصر مدته وأيامه الثمانية، ليس من الناحية العسكرية فحسب، بل من الناحية السياسية أيضًا، وشكّل مفترق طرق في طبيعة السياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة وتجاه دول المنطقة العربية.
جاء العدوان بعد اندلاع الثورات العربية عام 2011، وصعود التيارات الإسلامية في عدد من البلدان العربية وأبرزها مصر، وكان للتحولات السياسية الكبرى في تلك البلدان أثر كبير على القضية الفلسطينية وطبيعة الصراع مع دولة الاحتلال التي أرادت من هذه الحرب تحقيق جملة من الأهداف، وإيجاد إجابات عن عديد من التساؤلات في الداخل “الإسرائيلي” حول قدرات المقاومة الفلسطينية، واختبار مواقف القوى الصاعدة في البلدان العربية.
إرهاصات العدوان
جاء العدوان الإسرائيلي بعد فترة من التوترات الأمنية في قطاع غزة بين جيش الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، حيث شهد عددًا من أحداث القصف على مناطق متفرقة، وإطلاق صواريخ المقاومة باتجاه البلدات المحتلة ردًا على استهدافات الاحتلال.
تخللت تلك الفترة حالة من التوتر دللت على إمكانية وقوع مواجهة، ومن أبرز إرهاصاتها:
1- خروج عدد من المسؤولين “الإسرائيليين” في تصريحات صعيدية ضد قطاع غزة وقيادة حماس، وحديث الإعلام “الإسرائيلي” بشكل متكرر عن قرب تجدد المواجهة.
2- الحركة الكثيفة للطيران الحربي الإسرائيلي والاستطلاع في سماء قطاع غزة خلال الأيام القليلة التي سبقت اندلاع العدوان.
3- حديث وسائل الإعلام عن وساطات تقودها مصر ودول عربية وأخرى أجنبية من أجل تثبيت وقف إطلاق النار في غزة للحيلولة دون نشوب مواجهة جديدة.
أشارت هذه الأحداث بشكل أو بآخر إلى قرب وقوع المواجهة، والتي بدأتها فعلًا قوات الاحتلال الإسرائيلي باغتيالها عضو المجلس العسكري العام لكتائب القسام أحمد الجعبري “أبو محمد”.
أهداف العدوان
ربما لم يكن في وارد حسابات القيادة “الإسرائيلية” شن عملية برية على قطاع غزة أثناء التخطيط لعملية العسكرية التي أطلق عليها جيش الاحتلال “عامود السحاب” وسمتها المقاومة الفلسطينة معركة حجارة السجيل، بل اقتصر الأمر على تنفيذ عملية جوية محدودة قد تستمر لأيام قليلة؛ حتى تستوعب حماس الضربة القوية التي تلقتها باغتيال عضو المجلس العسكري العام لكتائب القسام الشهيد أحمد الجعبري، ثم تبدأ وساطات مصرية لوقف إطلاق النار غير المشروط، وتنتهي العملية.
ويمكن إجمال دوافع وأهداف الاحتلال من شن عدوانه على قطاع غزة، فيما يأتي:
1- استنزاف المقاومة الفلسطينية (سياسة جز العشب)
تدرك قوات الاحتلال “الإسرائيلي” خطورة ترك المقاومة تعمل في أجواء مريحة؛ لأنها لن تدخر جهدًا في زيادة قدراتها العسكرية والتدريبية؛ ما يشكل خطرًا داهمًا عليها؛ لذلك كان لا بد من إيجاد سياسة عسكرية لكبح جماح المقاومة باستمرار وتحجيم قدراتها المتزايدة، فيما بات يعرف بسياسة “جز العشب”، وتعني القيام بعملية عسكرية محدودة أو واسعة، حسب ما تتطلبه الحالة، واستهداف المخزون الإستراتيجي للمقاومة من أنفاق ومواقع تصنيع الصواريخ وأماكنها وتخزينها وإطلاقها، واغتيال قيادات سياسية وعسكرية لإيقاف النمو المتزايد في قدرات المقاومة.
2- استطلاع المعلومات العسكرية بالقوة
يدرك الاحتلال أن المقاومة لا تألو جهدًا في تطوير قدراتها الذاتية من تدريب وتسليح، ولا تتوقف عن إيصال السلاح وتصنيعه في غزة، رغم كل ما يقوم به من عمليات استنزاف للمقاومة، وحصارها المفروض على القطاع، وهذا أمر لا تستطيع أجهزة أمن الاحتلال معرفته عن طريق الأجهزة الاستخبارية، أو ربما لديها معلومات قليلة حوله.
لذلك كان لا بد من استخدام بعض الأساليب العسكرية لاستطلاع ما لدى المقاومة من جديد الأسلحة، وهي عملية استخبارية بالدرجة الأولى تسمى عملية استطلاع بالقوة، وتتمثل في القيام بعمل عسكري لاستدراج الفصائل الفلسطينية للرد، والكشف عما لديها من قدرات خاصة الصواريخ، حيث تكمن أهمية تلك الخطوة في توفير الجيش “الإسرائيلي” وسائل الرد الجاهزة على إمكانات المقاومة، وحماية جنوده وجبهته الداخلية.
3- ترميم حالة الردع المتآكلة ووقف إطلاق الصواريخ
تمثل أحد أهداف العدوان “الإسرائيلي” على غزة في 2008–2009، بوقف إطلاق القذائف الصاروخية من غزة على البلدات والمدن المحتلة فيما يُعرف بـ”غلاف غزة”، وهو ما استمر فعليًا لمدة عام بعد انتهاء العدوان، لكن المقاومة عاودت نشاطها بإطلاق الصواريخ من جديد، ولم تدُم حالة الردع التي ظن الاحتلال أنه حققها إلا لفترة بسيطة.
وبالتالي فإن حاجة الاحتلال لترميم حالة الردع المفقودة مع المقاومة بقيت مستمرة ومطلوبة دائمًا، ما يتطلب القيام بعمل عسكري كبير من أجل وقف إطلاق تلك الصواريخ، واستعادة الهدوء على حدود غزة، وإطالة أمده.
4- اختبار موقف النظام المصري الجديد بعد ثورة يناير 2011
يمكن اعتبار هذا الأمر أحد أبرز الأهداف الخاصة للعدوان على قطاع غزة، حيث راقبت المؤسسة “الإسرائيلية” التغيرات السياسية الناتجة عن الثورات العربية بحذر، خصوصًا التغيير السياسي في مصر ذات الحدود المشتركة معها، وتربطها بها اتفاقية سلام منذ 1979، وتخشى انهيار هذه المعاهدة، وبالتالي انفراط عقد علاقاتها مع مصر بعد ثورة 25 يناير، التي أتت بالإسلاميين إلى الحكم، وأفقدتها الكنز الإستراتيجي المتمثل في مبارك، ونظام حكمه.
لقد درجت القوات الإسرائيلية على استهداف قطاع غزة باستمرار، وخصوصًا بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ولم يكن للنظام المصري آنذاك ردة فعل مضادة تجاه تلك الاستهدافات، على العكس، فقد بات معروفًا لدى الجميع الدور الذي لعبه نظام مبارك في الحرب الأولى على غزة عام 2008.
ومن أجل الوقوف على حقيقة الموقف للنظام المصري الجديد من القضية الفلسطينية وقطاع غزة تحديدًا، كان لا بد من اختباره وقياس ردة فعله تجاه أي عملية عسكرية على غزة؛ حتى تتمكن القيادة الإسرائيلية من تقدير الموقف لسياساتها اللاحقة في المنطقة.
5- اختبار الأسلحة الجديدة (القبة الحديدية)
بعد انتهاء حرب لبنان صيف عام 2006 تغيرت ملامح النظرية الأمنية الإسرائيلية التي اعتمدت على قوة الردع، ونقل المعركة لأرض العدو، وتبني أسلوب الهجوم؛ بسبب تغيّر القدرات العسكرية للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وأن نتائج المعركة أثبتت أن هذه القواعد لم تعد موجودة، ويجب تبني القواعد الدفاعية في المواجهات القادمة.
سعى الاحتلال جاهدًا للعمل إلى تطوير منظوماته الدفاعية باستمرار، وأبرزها منظومة القبة الحديدية، وأنه بين الفينة والأخرى لا بد من اختبار مدى نجاح هذا السلاح، وهذا ما فعلته في أكثر من مواجهة مع غزة، ومنها عملية عامود السحاب.
6- استغلال العدوان لتحقيق مكاسب انتخابية
جرت العادة أن يكون سفك الدماء الفلسطينية إحدى مواد الدعاية الانتخابية للأحزاب الإسرائيلية من أجل كسب المزيد من الأصوات، فكانت الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية أحد دوافع العدوان على لبنان عام 2006، وكذلك الحال في عدوانها على غزة في 2008 – 2009، وبالتالي كان متوقعًا أن تشن القوات الإسرائيلية العدوان على غزة في تلك المرحلة حتى يرفع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحلفاؤه من حظوظ نجاحهم في هذه الانتخابات.
مجريات العدوان
عضو المكتب السياسي لحركة حماس، وعضو المجلس العسكري العام لكتائب القسام اغتالته إسرائيل عام 2012.
أقدم الاحتلال يوم الرابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2012 على اغتيال نائب القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام الشهيد أحمد الجعبري باستهداف سيارته وسط مدينة غزة بصاروخ من طائرة بدون طيار، ما أدى إلى استشهاده على الفور برفقة مساعده القائد القسامي محمد الهمص، وكان هذا الاستهداف بمثابة شرارة اندلاع العدوان.
أعلن جيش الاحتلال نجاحه باغتيال الجعبري الذي وصفه “قائد أركان حماس”، وأعقب الاغتيال سلسلة عنيفة من الغارات التي استهدفت مواقع وأماكن متفرقة في جميع أنحاء قطاع غزة، مُعلنًا بدء عملية عسكرية أطلق عليها اسم “عامود السحاب” وهو اسم ديني توراتي ذو دلالة دينية، في حين أطلقت المقاومة على عملية التصدي لهذا العدوان اسم “معركة العصف المأكول”.
من مساء اليوم ذاته، أعلن الجيش الإسرائيلي انتهاء المرحلة الأولى من العملية، وادعى تدمير 70% من القدرة الصاروخية لحماس في تلك الضربات، لكن الجيش كعادته استهدف في تلك الضربات كل ما هو فلسطيني من البشر والشجر والحجر، والعديد من المقرات الأمنية والمنشآت والمدارس والمنازل السكنية والمساجد، زاعمًا أنها تمثل مراكز قيادة وسيطرة للمقاومة.
رد نوعي
كشفت كتائب القسام خلال معركة (حجارة السجيل) عن قدرات عسكرية كبيرة، سواء في مجال القدرة الصاروخية، أو الصواريخ المضادة للطائرات، واستخدامها للأسلحة الموجهة، ومع الساعات الأولى للمعركة اتخذت قيادة القسام القرار الذي عجزت عن اتخاذه دول وأنظمة وجيوش، وأعلنت عن قصف مدينة تل أبيب المحتلة، وقالت إن (القادم أعظم).
كان من ضمن المفاجآت التي كشف عنها القسام، ضرب عمق الكيان الإسرائيلي لأول مرة، واستخدام صواريخ صنعت بأيدي القسام وصل مداها 80 كم، والإعلان عن دخول صاروخ M75 للخدمة، بعد استهداف تل أبيب ومواقع في القدس المحتلة به لأول مرة، بجانب أجيال أخرى من الصواريخ.
أثار قصف كتائب القسام لمدينة تل أبيب موجة من الفرح والتأييد في أوساط الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي، ممزوجة بحالة من الفخر بالمقاومة التي اعتمدت على قدراتها الذاتية في ظل الحصار، وتمكنت من تطوير قدراتها الصاروخية لتضرب عمق دولة الاحتلال.
واصلت الكتائب مفاجآتها التي أذهلت الاحتلال حين استخدمت الصواريخ الموجهة المضادة للدروع، كما استهدفت طائرات الاحتلال الحربية والمروحية بصواريخ أرض-جو لأول مرة في تاريخ المقاومة، فأسقطت طائرة حربية إسرائيلية غرب مخيم النصيرات وسط القطاع، واستهدفت عددًا آخر.
توالت مفاجآت القسام التي أذهلت الاحتلال، باستهدافها المنظومة التقنية الإسرائيلية الأعقد، متمثلة بطائرات الاستطلاع، حيث تمكنت من إسقاط طائرة بدون طيار بمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، وعرضت صورها على وسائل الإعلام، واستهدف مقاتلو القسام بارجتين حربيتين صهيونيتين قبالة سواحل قطاع غزة بصواريخ الـ 107.
لم يقتصر الإنجاز القسامي فقط على المجال العسكري الميداني، بل وصل أكثر المجالات تطورًا، باختراقها للقنوات التلفزيونية الإسرائيلية، وبث رسالة تهديد للاحتلال في حال قرر الدخول برًا لقطاع غزة.
وبهذه المفاجآت التي كشفت عنها كتائب القسام خلال عملية (حجارة السجيل)، تكون قد حققت إنجازًا عسكريًا كبيرًا أمام آلة الحرب الإسرائيلية التي عجزت عن مواجهتها جيوش نظامية، أثبتت للعدو قبل الصديق أنه لا يمكن الاستهانة بقدرات المقاومة، أو فرض قواعد جديدة عليها.
مثّلت ردود المقاومة على العدوان صدمة كبيرة في أوساط دولة الاحتلال: السياسية والعسكرية، التي لم تتوقع أن يكون رد المقاومة مفاجئًا وقويًا بهذا الحجم، ما أوجد حالة من خيبة الأمل التي بدت معالمها تظهر بعد مضي اليوم الثالث للعملية؛ لذلك لجأت القوات الإسرائيلية لممارسة سياستها المعهودة باستهداف المدنيين وقصف المنازل السكنية والمقرات المدنية، لتسويق نصر موهوم لشعبها، خصوصًاً بعد رفض المقاومة الشروط الإسرائيلية.
وساطات إنهاء العدوان وتثبيت التهدئة
أدت مفاجأة القيادة “الإسرائيلية” برد المقاومة الفلسطينية القوي وغير المتوقع بإقدام حماس على كسر كل الخطوط “الإسرائيلية” الحمراء، إلى إدراكها بعمق الأزمة، وكي تضمن عدم انفلات الأمور لما هو أسوأ، بدأت وبعد يومين فقط من اندلاع الحرب جهودها للبحث عن وقف لإطلاق النار، وطلبت من تسع دول عربية وأجنبية التوسط والضغط على حماس وفصائل المقاومة الأخرى لوقف إطلاق النار.
وضعت دولة الاحتلال مجموعة من الشروط لوقف إطلاق النار، تمثلت بوقف إطلاق القذائف الصاروخية من قبل المقاومة، ووقف استهداف الآليات العسكرية “الإسرائيلية” على الحدود قطاع غزة، وتخلي المقاومة عن سلاحها، ومنع تهريب الأسلحة، واعتبار حماس مسؤولة عن أي عمليات عسكرية تنطلق من قطاع غزة، وهو ما رفضته المقاومة جملة وتفصيلًا، وفي المقابل وضعت شروطها التي تمثلت بوقف العدوان، ووقف سياسة الاغتيالات، ورفع الحصار عن غزة.
بعد مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين في القاهرة، شاركت فيها تركيا وقطر والولايات المتحدة الأمريكية، انتهت بتوقيع اتفاق التهدئة وسريان وقف إطلاق النار الذي بدأ يوم الحادي والعشرين تشرين ثاني/نوفمبر2012.
وقد جاء عنوان الوثيقة التي تم الاتفاق عليها: “تفاهمات خاصة بوقف إطلاق النار في قطاع غزة”، وشملت البنود التالية:
– تقوم “إسرائيل” بوقف كل الأعمال العدائية على قطاع غزة برًا وبحرًا وجوًا، بما في ذلك الاجتياحات وعمليات استهداف الأشخاص.
– تقوم الفصائل الفلسطينية بوقف كل الأعمال العدائية من قطاع غزة تجاه “إسرائيل” بما في ذلك إطلاق الصواريخ والهجمات على الحدود.
– فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع وعدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية، والتعامل مع إجراءات تنفيذ ذلك بعد 24 ساعة من دخول الاتفاق حيز التنفيذ.
– يتم تداول القضايا الأخرى إذا ما تم طلب ذلك.