انطلاقة حركة حماس
شكّلت حادثة “المقطورة” الشهيرة شرارة انطلاقة الانتفاضة الأولى التي أدت إلى إعلان انطلاقة حركة حماس، وهي وإن لم تكُن السبب الرئيس في إعلان الانطلاقة ، إلا أنها مثلت نقطة التحول إلى المواجهة مع الاحتلال والاستفادة من حالة الهبّة الشعبية والغليان في الشارع الفلسطيني المشحون ضد الاحتلال.
اعتُبرت حادثة دعس العمال الفلسطينيين قرب بيت حانون شرارة الانتفاضة الأولى عام 1987
وبالانتقال إلى تفاصيل تلك الحادثة، حيث إنه وفي يوم الثلاثاء الثامن من ديسمبر عام 1987م وقرب مدخل حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة – المسمى عند سلطات الاحتلال “حاجز إيرز” – أقدم سائق شاحنة “مقطورة” إسرائيلي كان متجهاً إلى الأراضي المحتلة “متعمداً” على صدم سيارتين تقلان عمالاً فلسطينيين كانوا عائدين من عملهم في الداخل إلى قطاع غزة؛ ما أدى إلى استشهاد 4 عمال وإصابة 9 آخرين.
اندلاع الانتفاضة
كانت تلك الحادثة بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وأثارت موجة عارمة من السّخط في أوساط الشعب الفلسطيني تُرجمت بمظاهرات واحتجاجات، وأسست لمرحلة جديدة من المواجهة مع الاحتلال.
شاركت جماهير غفيرة من بلدة جباليا ومعسكرها في تشييع جنازة الشهداء، وعقب الانتهاء من التشييع توجهت الجماهير الغاضبة نحو موقع الجيش الإسرائيلي وسط المخيم، واندلعت اشتباكات استمرت من المساء وحتى صباح اليوم التالي الأربعاء 9 ديسمبر، وأسفرت عن ارتقاء أول شهيد في الانتفاضة (حاتم السيسي) من أبناء معسكر جباليا على يد قوات الاحتلال ووقوع العديد من الجرحى في صفوف المتظاهرين.
شكّلت الجامعة الإسلامية بغزة خلال الانتفاضة منطلقاً للتظاهرات ضد الاحتلال
استدعى سقوط الجرحى والشهداء توجه مسيرات طلابية وأعداد من الشبان إلى مستشفى دار الشفاء بمدينة غزة للتبرع بالدم، واستمرت المواجهات مع قوات الاحتلال حيث أسفرت عن ارتقاء شهيد آخر من طلاب الجامعة الإسلامية وهو (رائد شحادة) المنتمي للحركة الإسلامية.
يُذكر هنا أن الجامعة الإسلامية مثلت في ذلك الوقت وما قبله منطلقاً للتظاهرات والاحتجاجات الطلابية ضد قوات الاحتلال.
الاجتماع الأول
استدعت الأوضاع التي سادت قطاع غزة في ذلك الوقت من قيادة الحركة الإسلامية إلى التشاور حول طبيعة العمل المراد القيام به، فكان الإجماع على توظيف تلك الفرصة للانطلاق عملياً في العمل المُسلح ضد الاحتلال.
وتداعى عدد من قيادات الحركة إلى اجتماع طارئ مساء العاشر من ديسمبر في منزل الشيخ أحمد ياسين بمدينة غزة، وحضر ذلك الاجتماع ستة قادة إلى جانب الشيخ أحمد ياسين، هم: د. إبراهيم اليازوري (45 عاماً) من سكان مدينة غزة، ود. عبد العزيز الرنتيسي (40 عاماً) طبيب من سكان خانيونس جنوب القطاع، والشيخ صلاح شحادة (40 عاماً) الذي كان موظفاً في الجامعة الإسلامية من سكان بيت حانون شمال القطاع،.
كما ضم الاجتماع كلًا من المهندس عيسى النشار (35 عاماً) من سكان رفح جنوب القطاع، والأستاذ محمد شمعة (50 عاماً) من سكان مدينة غزة – مخيم الشاطئ، والأستاذ عبد الفتاح دخان (50 عاماً) من سكان مخيم النصيرات وسط القطاع.
كان الاجتماع التأسيسي الأول لحماس مساء العاشر من ديسمبر 1987 في منزل الشيخ أحمد ياسين بغزة
بحث المجتمعون تداعيات الأحداث منذ حادثة “المقطورة” وما تلاها، وتم الاتفاق على استثمار الأحداث وتطويرها للدخول في مرحلة جديدة.
وصل خلال الاجتماع خبر مفاده أن قوات الاحتلال أقدمت على إغلاق الجامعة الإسلامية من أجل تطويق الأحداث، فكان القرار نقل المواجهات وانطلاق المسيرات من الجامعة إلى الشوارع، وهي عبارة عن الاصطدام والاشتباك مع قوات الاحتلال بتنظيم المظاهرات وإلقاء الحجارة وقنابل المولوتوف اليدوية على دوريات الجيش ومراكزه.
تأجيج الانتفاضة وتصعيد المواجهة
ساعدت حالة الغليان التي سادت أرجاء الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م عموماً وقطاع غزة خصوصاً، في توسيع رقعة المواجهات والمظاهرات التي انطلقت في جباليا، وتكفل بنقلها إلى خانيونس الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وبالفعل خرجت مظاهرات انطلاقاً من المساجد في خانيونس صباح السبت 12 ديسمبر بعد أن نادت مكبرات الصوت من مآذن المساجد وفُتحت الأناشيد الحماسية، لتجتمع حشود المواطنين وتخرج في مسيرات وتشتبك مع قوات الاحتلال مُخلّفة أعداداً من الجرحى والمعتقلين.
ثم توسعت بعد ذلك رقعة المواجهات لتندلع في معسكر الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة ثم المعسكرات الوسطى ثم رفح؛ وتعم بذلك أرجاء قطاع غزة.
البيان الأول
جرى خلال اجتماع قيادة الحركة الإسلامية في بيت الشيخ أحمد ياسين صياغة البيان الأول للانتفاضة، حيث أملى الشيخ ياسين لأحد الإخوة الحضور بكتابة البيان وهو (خالد الهندي) الذي كان رئيس مجلس طلبة الجامعة الإسلامية ومسؤول الكتلة الإسلامية.
تمت صياغة البيان في تلك الليلة 10 ديسمبر، وتم الاتفاق على طباعته وتعميمه، وأُسندت تلك المهمة إلى الجهاز الأمني (مجد) بقيادة يحيى السنوار، إلا أن صعوبة الوضع الأمني وحالة الطوق التي فرضتها قوات الاحتلال في ذلك الحين حالت دون توزيعه يوم الجمعة التالي، فتمكن الإخوة من توزيعه على جماهير مدينة غزة في يوم الإثنين 14/12/1987م، ووصل إلى باقي أنحاء القطاع صبيحة اليوم التالي الثلاثاء 15 ديسمبر.
وجاء نص البيان كالآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}
يا جماهيرنا المرابطة المسلمة:
أنتم اليوم على موعد مع قدر الله سبحانه النافذ في اليهود وأعوانهم.. بل أنتم جزء من هذا القدر الذي سيقتلع جذور كيانهم إن آجلا أم عاجلا بإذن الله سبحانه وتعالى.
إن مئات الجرحى وعشرات الشهداء الذين قدموا أرواحهم خلال أسبوع في سبيل الله من أجل عزة أمتهم وكرامتها، ومن أجل استعادة حقنا في وطننا رفعا لراية الله في الأرض لهي تعبير صادق عن روح التضحية والفداء التي يتمتع بها شعبنا والذي قض مضاجع الصهاينة وزلزل كيانهم، والذي أثبت للعالم أن شعبا يطلب الموت لا يمكن أن يموت.
لا بد أن يفهم اليهود برغم قيودهم وسجونهم ومعتقلاتهم.. برغم المعاناة التي يعانيها شعبنا في ظل احتلالهم المجرم.. برغم شلالات الدماء التي تنزف كل يوم.. برغم الجراح، فإن شعبنا أقدر منهم على الصبر والثبات في وجه طغيانهم وغطرستهم حتى يعلموا أن سياسة العنف ستُقابَل أشد منها من أبنائنا وشبابنا لأنهم يعشقون جنات الخلد أشد مما يعشق أعداؤنا الحياة الدنيا.
لقد جاءت انتفاضة شعبنا المرابط في الأرض المحتلة رفضا لكل الاحتلال وضغوطاته.. رفضا لسياسة انتزاع الأراضي وغرس المستوطنات.. رفضا لسياسة القهر من الصهاينة.. جاءت لتوقظ ضمائر اللاهثين وراء السلام الهزيل.. وراء المؤتمرات الدولية الفارغة.. وراء مصالحات جانبية خائنة على طريق كامب ديفيد.. وأن يتيقنوا أن الإسلام هو الحل وهو البديل.
ألا فليعلم كل المستوطنين المستهترين أن شعبنا عرف ويعرف طريقه –طريق الاستشهاد وطريق التضحية-، وأن شعبنا جواد كريم في هذا الميدان، ولن تجديهم سياسة العسكريين والمستوطنين وستتحطم كل محاولاتهم لإذابة شعبنا وإبادته برغم رصاصهم وبرغم عملائهم وبرغم مخازيهم..
وليعلموا أن العنف لا يولد إلا العنف، وأن القتل لا يوِّلد إلا القتل. وصدق القائل: “وأنا الغريقُ فما خوفي من البللِ”.
وللصهاينة المجرمين: ارفعوا أياديكم عن شعبنا – عن مدننا – عن مخيماتنا – عن قرانا، معركتنا معكم معركة عقيدة ووجود وحياة.
وليعلم العالم أن اليهود يرتكبون الجرائم النازية ضد شعبنا. وأنهم سيشربون من نفس نفسها.
(ولتعلمن نبأه بعد حين)
حركة المقاومة الإسلامية (ح. م. س)
14/12/1987م
كان هذا البيان الأول لإعلان الانتفاضة (انتفاضة الحجارة)، كما اعتُبر البيان الأول لانطلاقة حركة المقاومة الإسلامية، ولم يتم الاصطلاح وقتها على تسمية الحركة باسم “حماس”، الأمر الذي تمّ بعد البيان الثاني أو الثالث من بيانات الانتفاضة، وذلك في أحد الاجتماعات التي كانت تتم كل يومين أو ثلاثة تقريباً.
وقد تم تداول وضع اسم مختصر للحركة، حيث اهتدى أحد الحاضرين، (وهو حسن القيق من دورا – الخليل) إلى تسمية اسم “حماس” اختصاراً لـ (حركة المقاومة الإسلامية).
وفي تفسير إطلاق اسم جديد للحركة الإسلامية مع بداية الانتفاضة – بخلاف المسميات التي كانت الحركة تعمل من خلالها – يقول الشيخ أحمد ياسين “إن الدخول في طور جديد من المواجهة مع الاحتلال يتطلب اسماً جديداً يتوافق مع الواقع وهو واقع المقاومة لذلك سُميت حركة المقاومة، وبالطبع فهي حركة إسلامية، فكان الاسم حركة المقاومة الإسلامية – حماس”.
اتسعت رقعة الانتفاضة الشعبية، ووجدت الجماهير الفلسطينية في فعاليات الانتفاضة متنفساً للتعبير عن غضبها ورفضها لسياسات دولة الاحتلال؛ ساهم ذلك في تجسيد مشهد عظيم قلّ نظيره من الصمود في وجه قوة الاحتلال وعدوانه، والتكاتف والترابط بين أفراد المجتمع.
الشعوب تمتلك قدرة عجيبة على الصمود لا يفهمها إلا من يجربها
الشيخ أحمد ياسين
وتجلت صور هذا التكاتف خلال فرض الطوق الأمني وحصار المخيمات والمدن الفلسطينية في غزة وما يتخلله من ساعات فك الطوق التي استغلها الناس للتزود بما يلزمهم من طعام وشراب وحاجيات.
ويقول الشيخ أحمد ياسين في إحدى مقابلاته مُعلقاً: “إن الشعب الفلسطيني خلال الانتفاضة الأولى كان في أعلى درجات صموده ووعيه وتكاتفه وقوته، وهذا يدلل على أن الشعوب لها قدرة عجيبة لا يفهمها إلا من يجربها في المواقف الصعبة”.
الانتقال إلى الضفة الغربية
ومع تصاعد أحداث الانتفاضة في قطاع غزة وتسارع وكالات الأنباء إلى تغطيتها وتناقلها عبر شاشات التلفزة، انتقلت حالة التفاعل إلى الجماهير في الضفة الغربية؛ حيث كانت تسعى قيادة الحركة منذ بداية الأحداث إلى تصعيد المواجهة وإشراك جماهير الضفة فيها.
كانت جميع الأحداث والإجراءات تتم بالتنسيق والتشاور في أوساط القيادة المشتركة بين غزة والضفة، ولم تكن الضفة بعيدة عن صياغة الأحداث ومتابعتها، فقد ذكر الشيخ أحمد ياسين أن عدداً من قيادات الحركة قد غادر إلى الضفة في بداية الأحداث وأطلع القيادة فيها على صورة الأحداث، وتم التشاور في آليات تصعيد الانتفاضة في الضفة الغربية على غرار ما جرى في غزة، وهو ما تم بالفعل وعمّت الانتفاضة أرجاء الأراضي المحتلة عام 1967م بعد قرابة شهر على انطلاقها.
لم تدَع – كل تلك الأحداث – مجالاً للشك بأن الحركة الإسلامية كانت المحرك الرئيس لانتفاضة عام 1987م، وهو ما اعتقدت به سلطات الاحتلال جازمة، فشنّت حرباً واسعة على الإسلاميين إبان تلك الفترة من اعتقال وملاحقة عدد من القيادات.
وكان من أبرز القيادات التي تعرضت للاعتقال كل من الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي اعتقل في يناير من عام 1988م لمدة 21 يوماً، إلى جانب القيادي يحيى السنوار – أحد مؤسسي منظمة “مجد” – إدارياً لمدة ستة أشهر، إضافة إلى اعتقال المئات من أبناء الحركة للتحقيق معهم.
الإسلاميون من أتباع الإخوان المسلمين الأكثر عدداً والأكثر نشاطاً هم وقود الانتفاضة الحقيقي
وكالة الأنباء الفرنسية
كما أقدم الاحتلال على إبعاد عدد من القيادات الإسلامية في محاولة لتهدئة الأوضاع، منهم الشيخ خليل القوقا (رئيس الجمعية الإسلامية في معسكر الشاطئ وقتها).
ومن شواهد قيادة الحركة الإسلامية للانتفاضة ما جاء في تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية بتاريخ 1987/12/24 بأن من أسمتهم “الأصوليين المسلمين ورثة حركة الإخوان المسلمين المصرية الأكثر عدداً والأكثر نشاطاً في قطاع غزة هم وراء الانتفاضة وهم وقودها الحقيقي”.
كما أن وزير الحرب في حكومة الاحتلال في حينه (إسحق رابين) صرّح في مقابلة مع تلفزيون الاحتلال ليلة الثالث عشر من يناير 1988م، بأن “المجمع الإسلامي يقف وراء عمليات التحريض والإخلال بالأمن في قطاع غزة، وأن هذا هو السبب وراء ازدياد حدة العمليات المُخلة بالأمن”.
وروى الشيخ أحمد ياسين أن ضابط الشؤون العربية في سلطة الاحتلال استدعاه يوماً خلال الانتفاضة وطلب منه العمل على إيقاف الانتفاضة وتهدئة الجماهير، فكان رد الشيخ وقتها أنه ليس له علاقة بها وأن هذا شعب ثائر لا يستطيع أحد إيقافه، فرد عليه الضابط قائلاً: “بورقة واحدة منك تستطيع إيقاف الانتفاضة”، في إشارة واضحة إلى تيقّن سلطات الاحتلال من أن الحركة الإسلامية هي من تقف خلف الانتفاضة وتشعلها؛ وهذا ما رفضه الشيخ أحمد ياسين جملة وتفصيلاً، ما جعل ضابط الاحتلال يهدده بالإبعاد إلى جنوب لبنان في حال عدم توقف الانتفاضة.