الإبعاد إلى مرج الزهور
شكلت عملية أسر كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس للرقيب أول نسيم توليدانو وقتله في 13 ديسمبر عام 1992م، عامل انتقام لدى حكومة الاحتلال، فشنت حملة اعتقالات واسعة في الضفة وقطاع غزة، وأبعدت على أثرها 415 من عناصر وقادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي لمرج الزهور في جنوب لبنان.
وتعتبر تجربة المبعدين في مرج الزهور واحدة من محطات النضال المميزة التي انتصرت فيها إرادة الشعب الفلسطيني على الاحتلال الإسرائيلي وعدوانيته، حيث تمكن (415) فلسطينيًا مبعدًا من الصمود سنة كاملة في ظروف قاسية للغاية في مخيم أقاموه بالقرب من قرية زمرية على الحدود اللبنانية الفلسطينية وأطلقوا عليها “مرج الزهور” تفاؤلًا منهم.
أراد الاحتلال أن يكون الإبعاد منفى ونكبة لقادة العمل الإسلامي، لكنهم جعلوا من نكبتهم رحلة وتجربة في كل المجالات، فوظفوا طاقاتهم كلها، وأنشؤوا عيادة تعمل على مدار الساعة لمداواة مرضاهم، نجحت في إجراء عدة عمليات جراحية لعدد من المبعدين، حتى إن عددًا من سكان منطقة مرج الزهور تلقوا علاجًا فيها، واستطاعوا تحويل المحنة إلى منحة، وأرغموا الاحتلال على إعادتهم إلى فلسطين.
تداعيات الإبعاد وأسبابه
في الثالث عشر من ديسمبر عام 1992م، نفذت الوحدة الخاصة في كتائب القسام عملية أسر الرقيب أول نسيم توليدانو، وأمهلت حكومة الاحتلال عشر ساعات للإفراج عن أسرى من حركة حماس والفصائل الفلسطينية وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، وإلا فإنها ستقتل الجندي الإسرائيلي، وبعد انتهاء المدة التي حددتها كتائب القسام قتلت الجندي توليدانو نتيجة تعثر الوصول لاتفاق تُبرم خلاله صفقة للتبادل.
بعد يومين ألقى القسام جثة توليدانو على طريق القدس–أريحا؛ فجن جنون رئيس وزراء الاحتلال آنذاك “إسحاق رابين”، وأعلن من داخل الكنيست الحرب على حركة حماس، فبدأ حربه بإبعاد 415 من قادة العمل الإسلامي جُلهم من حركة حماس، وعدد قليل من حركة الجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في جنوب لبنان.
اعتقل الاحتلال جُل عناصر وقادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة والضفة، في حين كانت المخابرات الإسرائيلية تعمل على قدم وساق، من أجل إعداد قائمة كاملة للمعتقلين الذين سيتم إبعادهم.
جُمع الأشخاص كلهم الذين اتخذ بحقهم قرار الإبعاد وعددهم 415 شخصًا كان معظمهم من حركة حماس، وبعد سير الشاحنات التي تقل المعتقلين لأكثر من 60 ساعة أبلغهم الضابط الإسرائيلي المسؤول أنهم مبعدون بقرار من رئيس وزراء الاحتلال إسحاق رابين إلى جنوب لبنان.
بداية المعاناة
أنزل الجنود الاحتلال جميع المبعدين من الحافلات والطائرات، وبدؤوا بفك قيودهم ورفع الأربطة عن أعينهم، ووضعوهم داخل ست شاحنات نقل تجارية، سارت الشاحنات مسافة خمسة كيلو مترات تجاه الحدود اللبنانية فيما يعرف بالمنطقة المحرمة، وعند اقتراب الشاحنات من الحدود اللبنانية منع الجنود اللبنانيون الشاحنات من دخول الأراضي اللبنانية لعدم وجود قرار من الحكومة اللبنانية بإدخالهم إلى لبنان.
عادت الشاحنات أدراجها إلى المطلة، ولكن قبل وصول الشاحنات إلى المنطقة بحوالي 3 أو 4 كيلو مترات أطلقت القوات الإسرائيلية النيران بكثافة تجاه الشاحنات التي تقل المبعدين الفلسطينيين، الأمر الذي جعل سائقي الشاحنات يعودون للخلف ويطلبون من المبعدين النزول من الشاحنات حيث لا مفر لهم سوى البقاء بين النارين، نار الأسلحة الإسرائيلية، ونار القرار اللبناني بعدم السماح لهم بالدخول.
اضطر المبعدون للمكوث في أقرب منطقة توفر بها الماء، حتى وجد المبعدون أنفسهم بعد لحظات من المسير أنهم في منطقة تلّية بين نهرين من الماء، فقرروا الجلوس بها وأقاموا تلة المبعدين، فيما بعد عرف المبعدون أن هذه المنطقة التلية التي أقاموا بها تسمى مرج الزهور وهي قرية لبنانية.
مواجهة الواقع الصعب
استقر المبعدون في مرج الزهور وهي قرية ذات مناخ شديد البرودة، وهو ما لم يعتد عليه المبعدون نظرًا لمناخ فلسطين المعتدل، إضافة إلى أن المبعدين لم يمتلكوا أي ملابس تقيهم برد الشتاء، فقد أبعدوا بالملابس نفسها التي خرجوا بها من بيوتهم، كانت الأيام الأولى في غاية القسوة، وكانت وطأتها النفسية صعبة جدًا، فليس من السهل تقبل فكرة الإبعاد عن الوطن.
فيما تبين أن القرار اللبناني بعدم دخول المبعدين إلى لبنان كان بناءً على اتصالات بين قيادات حركة حماس في الخارج وبين الحكومة اللبنانية من أجل خلق ورقة ضغط على الاحتلال الإسرائيلي لإعادتهم إلى الوطن بدلًا من إبعادهم مدى الحياة.
مخيم العودة
كان رفض الدخول إلى لبنان والاكتفاء بإقامة مخيم على الحدود اللبنانية على تلال الثلج من أكثر القرارات الاستراتيجية التي اتخذها المبعدون، إذ صنعوا لأنفسهم مجتمعًا داخل هذا المخيم والذي أطلقوا عليه “مخيم العودة” لترسيخ مبدأ العودة القريبة.
نجح المبعدون في تحويل مخيمهم إلى دولة صغيرة، واتبعوا أسلوبًا إيجابيًا في تنظيم العمل، فقسموه إلى لجان عديدة، وانتخبوا من يديرها، وبرزت بينها اللجنة الإعلامية التي استطاعت بناطقيها الدكتور عبد العزيز الرنتيسي متحدثًا باللغة العربية باسم المبعدين، والدكتور عزيز دويك متحدثًا باللغة الإنجليزية، في حشد الرأي العالمي لقضيتهم وإيصالها لأكثر من 100 دولة.
تحويل المحنة إلى منحة
نجح المبعدون في استقطاب اهتمام وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وإحراج حكومة الاحتلال آنذاك برئاسة إسحاق رابين، وحشد التأييد لدى الرأي العام من خلال تحويل المنطقة التي أبعدوا إليها إلى ميدان للتعليم والخدمات الصحية، واستغلوا الخبرات الواسعة المتوفرة في صفوفهم لإنشاء جامعة تتولى استكمال المراحل الدراسية للطلبة المبعدين.
بدؤوا في ترتيب أمورهم من أجل تنظيم مخيمهم حيث كان من المبعدين عدد كبير من قادة حركة حماس، منهم الشيخان عبد الفتاح دخان ومحمد شمعة، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وهم من مؤسسي الحركة، وبدأت القيادة التاريخية لحركة حماس بترتيب المخيم من النواحي كافة من أجل إدخال النظام إلى حياة المبعدين، استمرت هذه القيادة الميدانية لمدة ثلاثة أشهر، بعدها نظمت انتخابات داخلية من أجل توسيع دائرة الشورى واتخاذ القرار، حيث بات واضحًا في الأفق أن أمورًا كثيرة ستحدث، وقرارات مصيرية ستتُخذ، وهذا يحتاج إلى قرارات ومسؤولية جماعية، وفعلًا تمت الانتخابات؛ وأُفزت عدد من اللجان تقوم على تسهيل حياة المبعدين، وقد مثلت اللجان الآتي:
1. لجنة علاقات خارجية: تتعلق باستقبال الوفود الإعلامية والزائرة والتنسيق معها ومع المؤسسات والهيئات التي كانت تقدم المساعدات المعنوية أو المادية.
2. لجنة إعلام خارجية وداخلية: تهتم بنقل الواقع الذي يعيشه المبعدون إلى جميع أنحاء العالم عبر اللقاءات والتصريحات والبيانات الداخلية والنشرات الخاصة التي كانت توزع بين المبعدين، وقد كان على رأس هذه اللجنة الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وكان هو المتحدث الإعلامي باسم المبعدين.
3. لجنة التموين: تهتم بالمواد التموينية التي يحتاجها المخيم بالتنسيق مع اللجان الأخرى.
4. لجنة التعليم والصحة: كانت من أبرز اللجان وأكثرها خدمة للمبعدين، حيث كان من ضمن المبعدين عدد لا بأس من العلماء، والمفكرين، والأطباء، والخطباء؛ أدى وجود هذه الطاقات والكوادر إلى إنشاء جامعة ابن تيمية للمبعدين، وقد تم التنسيق مع جامعات فلسطين في الضفة وغزة لاحتساب المواد التي سيدرسها المبعدون والشهادات التي ستُعطى لهم من قبل هذه الجامعة، واستطاع عدد كبير من المبعدين إكمال جزء من دراستهم في جامعة (ابن تيمية)، إضافة إلى أن الجامعة أقامت دورات لتحفيظ القرآن الكريم، والتلاوة، ودورات اللغات الأجنبية، فكان لهذه الجامعة نصيب في رفع معنويات المبعدين، واستغلال أوقاتهم بما هو نافع لهم.
في حين أنشأ أطباء المخيم عيادة طبية جُهزت بعدد بسيط من المعدات والأدوية واللوازم الأخرى، حيث صار بمقدور هذه العيادة إجراء عمليات جراحية متوسطة، كما أن عددًا من سكان القرى المجاورة لمرج الزهور تلقوا علاجا فيها، وأجريت لبعضهم عمليات جراحية متوسطة.
5. اللجنة الرياضية: وتشرف على اللياقة البدنية للمبعدين، حيث كان من بينهم مدربون لكرة القدم وفنون القتال، وقد أقيمت المهرجانات الرياضية في المخيم.
6. اللجنة الثقافة: أشرفت على تنظيم النشاطات الثقافية والمهرجانات والمحاضرات والمسابقات، كما أنشأت مكتبة للمخيم ضمت حوالي (1000) كتاب.
7. لجنة الحراسة: حافظت على أمن المخيم؛ فمنعت الدخول إليه أو الخروج منه ليلًا.
8. لجنة الأرشيف: واختصت بتوثيق أعمال المبعدين ويومياتهم، وكل ما يرد لهم من أوراق ورسائل.
9. لجنة الساحة والعمل التطوعي: أشرفت على المرافق العامة والنظافة والنظام، وقد اهتمت اللجنة التربوية بالشأن النفسي تجاه المبعدين، فقد أشرف أعضاؤها على الدروس التربوية والروحية الهادفة.
جامعة ابن تيمية
لم يقتصر جهد المبعدين على الجانب الإعلامي فقط، رغم أهميته الكبرى، إلا أنهم ساروا بخط متوازٍ في البناء والتربية، فأسسوا جامعة “ابن تيمية” وقد كان التدريس فيها على أسس علمية وجامعية كالمعتادة في جامعات فلسطين، وقد تم اعتماد نتائج هذه الجامعة بعد ذلك، وقد ضمت الجامعة (88) طالبًا برئاسة الدكتور عبد الفتاح العويسي، والدكتور موسى الأطقم، والدكتور عدنان مسودة، والدكتور غسان حرناس، والدكتور عزيز دويك، والدكتور عزام سلهب، والدكتور بسام جرار، وقد تخرج في الدفعة الأولى (15) طالبًا، واعتُمدت شهادات الخريجين في جميع الجامعات الفلسطينية بعد ذلك، وتمكن المبعد إبراهيم أبو سالم من إتمام شهادة الدكتوراه في المخيم بتفوق، حيث أرسلت جامعة أم درمان بالسودان والمنتسب إليها إلى المبعد لجنة خاصة من المناقشين إلى لبنان لإتمام الرسالة.
وضمت جامعة ابن تيمية -والمكونة من مجموعة من الخيام وعدد من الأستاذة والطلاب من المبعدين– مكتبة تحتوي ألف كتاب.
موقف مجلس الأمن الدولي من الإبعاد
صدر قرار مجلس الأمن الدولي 799 القاضي بإعادة المبعدين إلى وطنهم فورًا بلا قيد أو شرط، واعتبر أن طرد هذا العدد من الفلسطينيين بهذا الشكل هو انتهاك للقوانين الدولية، وشدد على ضرورة تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة 12/آب /1949 على كل الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس، وكذلك احترام لبنان واستقلاله وسيادته، وضمان العودة السالمة للمبعدين فورًا، مع إرسال مندوب عن الأمم المتحدة لمتابعة قضية المبعدين.
مسيرات المبعدين واحتجاجاتهم
1. 17/1/1993 اعتصم المبعدون على الجبال، وكتبوا رقم (799) بأجسادهم لمدة 3 ساعات بوجود الصحافة العالمية، وقد هدم المبعدون خيامهم احتجاجًا على عدم تنفيذ إسرائيل قرار 799 وإرجاعهم إلى بلادهم.
2. 19/1/1993م وصلت قوات بريطانية على متن 3 مروحيات؛ وتحدث معها المبعدون، وأكدوا أن قضيتهم سياسية وليست فقط إنسانية.
3. 1/2/1993 اجتمع المبعدون ورفضوا صفقة أمريكية إسرائيلية بإعادة 100 مبعدٍ ومبعد، وتخفيف مدة الإبعاد لمعرفتهم سوء نوايا الصهاينة.
4. 28/1/1993 رفض المبعدون التعاطي مع قرار إسرائيل بقبول اعتراضات المبعدين على نقطة الحراسة الإسرائيلية.
5. 17/2/1993 قرر المبعدون تنفيذ فعالية مسيرة الأكفان، حيث ارتدوا أكفانهم وساروا إلى معبر زمرية ليعودوا إلى وطنهم رغم إطلاق النار الكثيف والمتواصل، وحيث كان موتهم محققًا.
6. 10/5/1993 وصل مبعوث (إسرائيلي) يحمل كشفاً به 189 اسماً من المبعدين، وقد حدد فيه موعدا لعودتهم.
انتصار الإرادة والعودة
فصول من العذاب والمعاناة عاش تفاصيلها مبعدو مرج الزهور طيلة مدة إبعادهم، حيث عاشوا في طبيعة مناخية غير تلك التي اعتادوا عليها، وظروف استثنائية، فلم يتوقف المبعدون عن تنظيم المسيرات والوقفات الاحتجاجية للمطالبة بحقهم في العودة.
راهن الاحتلال وعلى مدار سنة كاملة على قبول المبعدين بالواقع الذي حاول فرضه، إلا أنهم نجحوا في كسر قرار الإبعاد ووأد هذه السياسة في مهدها، فوافق الاحتلال في سبتمبر عام 1993م على عودة 189 مبعدًاً إلى ديارهم، فيما عاد الباقون في ديسمبر من العام نفسه.