معركة الفرقان
ستون طائرة حربية إسرائيلية أغارت ظهر السابع والعشرين من ديسمبر عام 2008م على أكثر من 100 موقع حكومي ومدني وأمني في لحظة واحدة، في مشهد فظيع ومجزرة مروعة خلفت مئات الشهداء والجرحى، وصدمة كبرى لن تنسى في تاريخ غزة وفلسطين.
لم تكن هذه المجزرة سوى مقدمة لعدوان شامل على رأس أهدافه القضاء على حماس وإنهاء حكمها، ووقف صواريخ المقاومة نهائياً، واستعادة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وفق ما تواترت تصريحات قادة الاحتلال.
وسمّت قوات الاحتلال حربها تلك بـ”الرصاص المصبوب”، كناية عن غرورها وتظاهرها بالقوة والجبروت، فصبت صواريخها على كل شيء في غزة ولم تفرق بين مدني أو عسكري، وحشدت جيشها بمدرعاته ومشاته وهندسته، وانتخبت أفضل الوحدات القتالية لاقتحام غزة وإسقاط حماس.
وكان الاحتلال قد مهّد لمهمته تلك بحصار خانق خلّف أوضاعاً إنسانية كارثية، وتسبب بنقص حاد، وصل حتى نفاد كامل لكثير من المواد الغذائية والأدوية والمحروقات، إضافة إلى إغلاق المعابر بشكل كامل وتقييد حركة السكان؛ ما أودى بحياة عشرات المرضى لم يتمكنوا من السفر لتلقي العلاج.
وألحق الاحتلال بالحصار والحملة الجوية الشرسة، هجوماً برياً واسعاً قطّع أوصال قطاع غزة وتسبب بهجرة داخلية وتدمير آلاف المنازل وتجريف أراضٍ زراعية، ونسف البنى التحتية.
آلة العدوان المجنونة التي قتلت قرابة 1500 فلسطيني وجرحت ما يزيد على 5000 آخرين، لم تسلم منها مراكز الإيواء التي أشرفت عليها الأمم المتحدة من الاستهداف ولا المساجد والمؤسسات التعليمية.
سيمياء الصمود
لا يمكن الحديث عن ميزان قوة عسكري خلال معركة الفرقان باعتبار أن المواجهة اندلعت بين رابع أقوى جيش في العالم مدجج بالطائرات والدبابات وبجميع أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية وقنابل الدايم والقنابل الفسفورية من جهة، وبين عناصر مقاومة غير نظامية لا تملك سوى أسلحة خفيفة ومتوسطة في أفضل حال وبعض الصواريخ محلية الصنع وعبوات ناسفة.
وكان من الطبيعي أن يرتقي جراء القصف العنيف آلاف الشهداء والجرحى جلهم من المدنيين العزل والأطفال والنساء والشيوخ سقطوا على مدار ثلاثة أسابيع من القصف الذي استهدف المقار الإدارية والبيوت ودور العبادة وحتى المقابر، نفذ جيش الاحتلال خلاله ألفين وخمسمئة غارة جوية وألقى أكثر من ألف طن من القنابل داخل رقعة لا تتعدى 365 كيلو متراً مربعاً.
وعلى الرغم من كثافة النيران، لم تستسلم الطلائع المقاتلة للمقاومة الفلسطينية، ونـجحت – وفي مقدمتها كتائب القسام – في صد العدوان، واستمرت في إطلاق الصواريخ والقذائف وخوض الاشتباكات، والعمليات الاستشهادية، حتى اضطر الاحتلال إلى الانسحاب من جانب واحد، دون أن يـحقق أياً من أهدافه.
محطة نحو التحرير
أما الحكومة الفلسطينية التي كانت ترأسها حماس، فقدمت نموذجاً فريداً للعمل في أقسى الظروف، وعلى الرغم من استهداف الاحتلال لمظاهرها الأمنية والمدنية كافة؛ بـما في ذلك اغتيال وزير الداخلية الشهيد القائد سعيد صيام، وكذلك استهداف الوزارات المدنية والمقرات الحكومية، إلا أن الحكومة واصلت عملها بطريقة استثنائية في ضبط الأمن الداخلي وإدارة شؤون القطاع.
كما نجحت في رعاية الوضع الصحي والإغاثي، ودفع رواتب الموظفين في مشهد عكس حالة استمرار الحكومة في عملها، فضلاً عن توجيه المعركة الإعلامية باقتدار كبير، فبرز فيه رئيس الوزراء وقتها إسماعيل هنية، الذي وجه عدة خطابات قوية ومؤثرة، ليعكس فشل الاحتلال في القضاء على حركة حماس.
ولم تخفق قوات الاحتلال في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية المخفية والمعلنة ضد حركة حماس فقط، بل ارتدت على تل أبيب بمواقف مضادة غير مسبوقة دولياً ظهرت لاحقاً في تقرير غولدستون الأممي وتبدل مواقف عدد من الدول كنفزويلا وتركيا.
الفشل الآخر الذي مُني به الاحتلال هو زيادة قوة حماس وتعاظم دورها فلسطينياً وعربياً وكسبها مزيداً من التعاطف والتأييد داخلياً وخارجياً.
وما ترسخ في أذهان القيادة السياسية للاحتلال ومن تواطأ معها قبل ست سنوات وحتى هذا الوقت، أن حركة حماس باتت رقماً صعباً في المعادلة الفلسطينية لا يضعفها حصار، ولا تزيلها حروب، ولا تُشترى بمال.
سنوات من الحصار والاعتداءات المتكررة بحق القطاع، فشلت في إنهاء مشروع المقاومة، إذ جعلت حركة حماس من معركة الفرقان مقدمة لصمود وتطور عسكري مطرد، أثبت على مدار الأيام تفوق المقاومة في مواجهة الاحتلال، ومضيها قدماً في طريق التحرير.